تسكن حقائق مطلقة، تتناغم فيها المعرفة مع محيط الوجود. ومع ذلك، يبقى الإيمان حالةً تتجاوز شعور الفهم، تتسرب إلى أعماق الروح لتلامس حقيقة الوجود.
معرفة الحق وحدها ليست كافية، فالأمر كمن يمتلك مفتاحًا لأبواب واسعة، لكن السكون المصاحب له يمنعه من فتحها. وعندما يأتي الحق إلى الناس، حين يخاطب الباطل في نفوسهم، لا تجد إلا نفورًا وترددًا؛ فكم من معرفة أُوجدت لكنها لم تُعاش، وكم من حقائق تزخرف بها العقول بينما تظل القلوب عمياء لأضواءها.
“فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ”، كيف يمكن أن يتجلى الحق، بينما العقول تتخبط في متاهات الأهواء؟ إن كان الإيمان حجر الأساس، فإن معرفة الحق هي فقط تمهيد الطريق. إنها دعوة للروح أن تتعانق مع الإيمان، وتغمرها بفهم عميق، فتسكن إلى خالقها.
قد يكون الحق حاضرًا في كل زوايا الحياة، لكن أين هم الذين يشعرون به، الذين يهبون كل شيء ليعانقوا معانيه؟ هنا يكمن سرّ العبور: في التفاني، في الإخلاص، في أن نكون مستعدين لأن نرى ما لا نريد. المعرفة تتلاشى أمام الأنا، بينما الإيمان يتسابق للوصول إلى المراد.
لنحذر من مكيدة المعرفة الجامدة، فهي كمن يمتلك جواهر ولكن قلبه عارٍ. لنستعد للسير في دروب الإيمان، حيث تتحقق المعاني، وتمتزج الأرواح بالحق، وندرك أن المعرفة وحدها لا تجلب الخلاص، بل يتطلب الأمر عشقًا حقيقيًا لحقيقة الحق.
فكلما تعمقنا في بحر المعرفة، زادت مسؤوليتنا في الدعوة إلى الإيمان. ليس مجرد إدراك مفهوم، بل انغماس في حالتين: الفهم والتطبيق. إن الإيمان هو النور الذي ينير الطريق، بينما المعرفة هي الخريطة التي تقودنا إلى الوجهة. عندما تجتمع الخريطة والنور، نكون في موقف يمكننا فيه اتخاذ خطوات حقيقية نحو الحقيقة.
الحياة ليست مجرد تسلسل زمني، بل هي سلسلة من اللحظات التي تتطلب منا الوعي. كل تجربة نواجهها، كل موقف يمر بنا، هو دعوة لإعادة التفكير في أفكارنا ومعتقداتنا. إن اللحظات الصعبة، التي نعتبرها محنًا، قد تكون في الحقيقة منارات ترشدنا إلى الفهم الأعمق للحق. فكل انكسار يمكن أن يؤدي إلى إعادة بناءٍ جديد في أرواحنا إذا ما استقبلناه بإيمان.
يمتاز المؤمنون بالقوة في مواجهة التحديات. إن إيمانهم يصنع منهم كائنات متسقة مع ذواتهم ومع الحق. في حين أن المعرفة، دون تعميق شعوري، قد تقود إلى الشك والارتباك والخوف. لذلك، يجب أن ننفتح للحق، ونتقبل كل ما يأتي من المعرفة، لكن لنستقبل الإيمان كرفيق درب.
دعونا نبني جسرًا بين المعرفة والإيمان. في تلك المساحة، يمكن أن تزدهر الحياة. يمكن أن تتجلى المعاني البعيده عن الأذهان، وتُستشعر بالخفقان الداخلي. إن هذا الجسر هو التجربة الإنسانية بكل عمقها، حيث نلتقي بالعالم الخارجي ونتفاعل معه، مدفوعين بالإيمان الذي ينمو من معرفتنا.
إن سبل الوصول إلى الحق متعددة، لكن كل سبيل يبدأ من الداخل. إن الرغبة الحقيقية في معرفة معنى وجودنا، وهدف حياتنا، هو ما يدفعنا للسير في طريق الإيمان الحقيقي. فلا تقتصر المعرفة على حروف وكلمات، بل لتكن انعكاسًا للروح التي تكافح من أجل الوصول إلى اليقين.
فلكي نكون مخلصين في سعينا، يجب أن نتجاوز حدود المعرفة التقليدية، إلى تجربة يعيشها القلب، ولا تقتصر على الذهن فقط. لذا، دعونا نغمر أنفسنا في عوالم الإيمان، لنكتشف روحانية تتخطى الزمان والمكان. لأنها ليست مسألة معلومات تُكتسب، بل هي حالة كيانية نعيشها كل لحظة.
في النهاية، الحياة هي استجابة مستمرة لتلك الدعوة التي يحملها الحق. ولنفهم أنه عندما نعرف، ونتلمس الحق بأرواحنا، سنفهم أن الإيمان هو الذي يجعل من المعرفة تجسيدًا حقيقيًا في حياتنا، ويوجه المسيرة إلى معنى أعمق للحياة. دعونا نبحث عن تلك النقطة التي يجتمع فيها القلب مع العقل، لنصل إلى صوفية الوجود ونعيش معانيه بجوهر الحقيقة.
أ. همام حسين علي،، الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار