مقالات منوعة

مكامن الاحساس،،، أ..قتيبة حسين علي

الاحساس البشري

في عمق النفس البشرية يكمن الإحساس، شغف الحياة الذي ينبض في القلب، ورغبة إلى السمو. ولكنه، مهما بدا رائعا في لحظاته الأولى، يجد نفسه عاجلاً أو آجلاً مواجهًا بواقع الحياة وضغوطها. إن هذا الإحساس، الذي نعتبره رفيقًا صالحًا في مسيرتنا، يعبر عن مزاج الروح واحتياجاتها. ولكن هل هذا الإحساس قادر على الصمود عندما يُحاصر بتحديات الحياة؟

نتأمل في العلاقة بين الإحساس وواقع الظروف، فنجد أن الأجمل قد يتحول إلى غبار تحت وطأة الضغوط المتراكمة. إذا ما استسلمنا لها، أصبح الإحساس مجرد ظلال، وهمًا يُبنى على أساس غير متين. فالإحساس الظاهر، الذي يُظن أنه جميل ومزدهر، قد يُظهر في زمن الشدة مدى هُشاشته وكيف يمكن أن يتلاشى أمام صراعات الحياة.
إننا نعيش في عالم يختبرنا، ليس ليدمرنا، بل ليظهر أين يكمن جوهرنا. فالفخر بما نكنه من مشاعر قد يكون براقًا، لكن إذا تهاوى عند أول عاصفة، فهل يستحق الفخر ذلك الزيف؟ وقد يُظهر انكسار الإحساس أنه لم يكن سوى ضوء مصطنع، وهالة سريعة الزوال.
لنُمعن النظر، في تلك اللحظات التي تشتد فيها الصعوبة. إن المواقف الصعبة هي التي تُظهر لنا جوهر مشاعرنا الحقيقية. حينها لا بد من التأمل العميق: هل كنا نعيش في وهم جميل، أم أن تلك المشاعر كانت جذورًا عميقة تمتد في أعماق الروح؟
الإحساس الخائب يكشف عن نفسه عندما يختار الاستسلام. فالأحاسيس الحقيقية – تلك التي لا تشوبُها الظروف – هي التي تقاتل، تصمد، وتنمو، حتى في وسط الفوضى. تلك التي ترفض أن تختفي في خضم المتغيرات، وتوجهنا نحو النور رغم الظلام. إن الصمود هو الاختبار الحقيقي للإحساس، وهو ما يجعلنا نستحق الفخر بمعناها.
لتكن ظروف الحياة مرآة نتأمل فيها، لنكتشف إن كانت مشاعرنا نابعة من أرواحنا العميقة أو من سطحنا الخارجي. الإحساس الذي يعرف كيف يتنفس وينمو رغم المعوقات هو ما يحق له الاستمرار في الحديث عنه، وكذلك الاعتزاز به. لأنه، في عمق حقيقته، هو ما ينقلنا من حالة انتظار الفرصة إلى الحياة بملئها، حيث تصبح تجربتنا روحانية تجسد قوة وقدرة على التعافي.
لذا، لنتقبل قوة النواقص في حياتنا، ولنخرج منها ببصيرة جديدة، تجعل من إحساسنا تجربة زاخرة مع حكمة الحياة. فلندعو الإحساس الحقيقي إلى الظهور، ولنسمح له بامتصاص دروس الحياة، وبناء آفاق جديدة تنفتح عند كل تحد. في الأخير، نحن من نختار الإحساس الذي يستحق أن نحتفظ به، فلنجعل من كل خيبة درسًا، ومن كل تجربة طريقًا للسير نحو الذات الأعمق.
وبينما نستشعر كل لحظة، علينا أن نكون واعين لطبيعة الإحساس الذي نسعى إليه. هل هو مسعى لامتلاك الجمال الخارجي، أم هو بحث عن العمق الروحي الذي يضئ طريقنا في الظلام؟ إذا كانت مشاعرنا مجرد ردود أفعال سطحية تجاه الظروف، فإنها ستبقى محجوزة بين حواجز الزيف والخداع.
المشاعر الحقيقية تتحول إلى تجارب تُنقش في قلوبنا. وفي كتابة تاريخ حياتنا، نحتاج إلى أن نكون مدركين للقرارات التي نتخذها أمام الضغوط. فهل سنختار أن نحتفظ بالإحساس النقي، ذلك الذي لا يتأثر بالأنواء والظروف، أم سنعطي لنفوسنا الفرصة للانزلاق نحو الخيبة؟
لهذا يجب أن نسعى لتحقيق التوازن بين العواطف والتجارب، لنكون قادرين على مواجهة العالم بمرونة. فالمشاعر العظيمة هي تلك التي تحقق انسجامًا بين القلب والعقل. حينما ندرك أن الألم، مثل اللذة، هو جزء من التجربة الإنسانية، نبدأ بنسج طريق خاص بنا يحمل في طياته دروسًا قيمة، تجارب تضيء الدرب أمامنا.
إن الحياة ليست دوائر مغلقة من النجاح والأفراح؛ بل هي رحلة معقدة مليئة بالتحديات والخيبات. وكلما واجهنا الصعوبات، نكتشف جوانب جديدة من أنفسنا. فالإحساس الحقيقي يبرز عندما نواجه شجاعتنا للتغلب على العواصف، وعندما نحمل الأمل حتى في الأوقات الحالكة.
لذلك، ليكن لدينا اعتقاد راسخ بأن تجاربنا، سواء كانت مؤلمة أو مفرحة، تشكل تشكيلًا متكاملًا لهويتنا. فكل تجربة، وكل شعور، يحمل في طياته معاني ودروسًا تجعلنا أقوى، وأكثر حكمة.
ولا ننسى أن الجمال الحقيقي يكمن في الوعي بعمق المشاعر. عندما نعيش في كل لحظة، نقوم بتجسيد معنى الوجود. وبالتالي، قد نكتشف أن الإحساس، حتى لو كان هشًا في بعض اللحظات، فهو مؤهل للنمو والتطور. إنه يتطلب منا الرعاية، الحماية، وأحيانًا التكيف.
دعونا نعتمد على قدرتنا على إعادة بناء شعورنا عندما نتعرض للكسر. فالحياة ليست فقط عن الأوقات السعيدة، بل عن كيفية التعامل مع الخيبات، وتحويلها إلى وقود يدفعنا للاستمرار. فكونوا طموحين في مشاعركم، احملوا الأمل في قلوبكم، وابنوا من جديد كل ما يكسر أمامكم.
ففي النهاية، نحن من نحدد أين نوجه قلوبنا، وأي إحساس يستحق أن ننضوي تحت رايته. بل يمكن أن تصبح تجربة الصمود والصبر هي الرمز الحقيقي لعطاء الروح، وتجاوز العقبات، لنكون، في نهاية المطاف، أشخاصًا يعتزون بحياتهم، ومشاعرهم، رغم كل ما اعترضهم من ظروف.
فلنستمر في البحث عن المعاني والتجارب، ولنرفض أن يكون إحساسنا مجرد زينة لا تتخطى سطور الحياة. فالإحساس الذي يستحق أن نشعر به هو الذي يقاوم، ينمو، ويمنحنا ملاذًا في عواصف الزمان. دعونا نحيا بعمق، ونجعل من مشاعرنا ألبوم ذكريات تُكتب بكل شغف، حكمة، وإلهام مستمر.

أ..قتيبة حسين علي،، الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى