في وقتنا الحاضر ، حيث يتغنى الناس بالحرية الفكرية ويترنمون بألحان العقلانية ، نجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة ومفارقة لا تصدق ، ففي حين يظهر الملحد بمظهر المثقف الراقي وهو يمسك كوب القهوة في يد وكتاب نيتشه في الأخرى ، تجد في أعماق فكره عقيدة تنكر حتى أبسط المبادئ التي تقوم عليها الفطرة والإنسانية ، ما يثير السخرية هو أن هؤلاء الملحدين الذين يتشدقون بالأخلاق والعدالة إنما يخفون تحت قناعهم هذا وحشية تامة ، تجسدها عقيدتهم المستندة على الانتقاء الطبيعي ، كيف ذلك ؟؟
هل تساءلت يوما كيف يبرر الملحد القيم والأخلاق في غياب إله ينزل شرائعه على البشرية ؟؟ ، الإجابة ببساطة هي أنه لا يبررها !! ، فالأخلاق في منظوره لا مكان لها في معادلة “البقاء للأقوى” التي تعلي من شأن القوة والتفوق الجسدي أو العقلي فوق أي شيء آخر ، الأخلاق في عالم الإلحاد ليست إلا وهما وخدعة يستخدمها هؤلاء “المثقفون” ليبقوا مقبولين في المجتمع المدني الذي يرفض مفهوم الانتقاء الطبيعي بحكم القوانين المدنية وما يترتب عليه من عقوبات في حال الإخلال بها .
الملحد الحقيقي ، إذا كان صادقا مع نفسه ومع عقيدته ، يدرك أن الانتخاب أو الانتقاء الطبيعي يستدعي القضاء على الضعفاء بلا تردد ، فالطبيعة لا تعترف بالضعف ، ومن هنا إذا تبنى الملحد هذه العقيدة حتى نهايتها المنطقية ، فإنه لا يرى ضررا في قتل الآخرين بدم بارد ، لأن هذا يتماشى تماما مع قانون الطبيعة الذي يؤمن به ، لكن هنا تأتي المفارقة ، كيف يدعي هؤلاء ” العقلانيون ” الالتزام بالقيم وهم في الحقيقة يحملون في أعماقهم عقيدة تنافي هذه القيم تماما؟؟ ، الجواب هو أنهم ببساطة يمارسون التقية الفكرية ، فالتقية ليست حكرا على أهل الأديان فحسب ، بل حتى الملحد يتقن فن الاختباء خلف قناع المدنية والحضارة ، بينما في داخله يضمر شيئا مختلفا تماما .
بعض الملحدين المغرر بهم ، قد لا يعلمون عقيدة وحقيقة الإلحاد ، وقد يظنون أن بإمكانهم التمتع بالقيم والأخلاق دون وجود إله يفرضها ! ،هؤلاء مساكين لم يدركوا بعد أن الأخلاق ليست من إنتاج الطبيعة العمياء ، بل هي نتاج الشرائع السماوية التي تعلي من قيمة الإنسان وتظهر فطرته وتحفظ حقوقه .
أما الصنف الآخر من الملحدين فهم الذين يعرفون تماما طبيعة عقيدتهم و يدركون أن الإلحاد في جوهره لا يعترف بأي قيمة أو أخلاق سوى تلك التي تفرضها قوانين البقاء للأقوى ، هؤلاء يعيشون بيننا كأناس عاديين ، يرتدون الأقنعة ويخضعون لقوانين المجتمع الحديث الذي يجرم القتل والهمجية ، لكن في داخلهم يعلمون ويعتقدون أن كل هذه الأخلاق ليست إلا قيودا مؤقتة فرضتها عليهم الحضارة القانونية ، وأنهم في نهاية المطاف مجرد حيوانات تحكمها قوانين الغابة .
وفي النهاية ، الإلحاد ليس فقط إنكارا لوجود الله ، بل إنما هو أيضا إنكار للقيم والأخلاق والإنسانية ذاتها ، لذا ، يجب على الملحد أن يختار بين أن يكون صادقا مع نفسه ويعيش وفقا لقوانين الطبيعة القاسية وقاعدة الانتقاء الطبيعي أو أن يستمر في التمثيل ويخدع المجتمع بأسره بتمثيله المتقن لدور الإنسان الأخلاقي .
الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار،،، د. قطرالندى عزيز دعدوش