في معترك هذه الحياة ، نواجه تحديات عديدة وأحيانا نجد أنفسنا أمام قيود وضوابط صارمة تكاد تخنق حريتنا وتحد من طموحاتنا ، قد نظن في لحظات ضعفنا أن تلك القيود هي العقبة الكبرى أمامنا ونوع من أنواع الظلم والتسلط ، إلا أن الحقيقة العميقة تكمن في أن هذه القيود نفسها هي التي تشيد طريق النجاح وترسي دعائم الإنجاز والأهداف .
لنتأمل في النظام التعليمي الأكاديمي على سبيل المثال ، فمنذ نعومة أظفارنا ، نحاط بمجموعة من القوانين والضوابط التي تبدو لنا في البداية قاسية وجاحفة وغير ضرورية ، من تسجيل الغيابات بدقة متناهية إلى الحضور في الوقت القانوني ، من الالتزام بالدوام المدرسي إلى مواجهة العقوبات الصارمة عند خرق القوانين الداخلية للمؤسسة التربوية ، هذه القيود التي قد نعتبرها في لحظات ما عائقا أمام حريتنا ، هي في الواقع ما يشكل الأساس المتين لنجاحنا الأكاديمي ، فلو ترك التعليم حرا بلا قيود ولا ضوابط ، لربما كان من الصعب علينا أن نجد طبيبا أو مهندسا أو حتى عالما ، فالالتزام بالقوانين والانصياع للضوابط الأكاديمية هو ما يشكل العقل وينحت الشخصية ، يجبرنا على تعلم قيمة الوقت واحترام المسؤوليات ، ويضعنا في إطار من الانضباط الذي يقودنا نحو التفوق .
لنقفز قليلا خارج حدود التعليم الأكاديمي ولننظر إلى عملية تعلم لغة جديدة ، كتعلم اللغة الإنجليزية ، أو حفظ القران الكريم ، أو البداية في طلب العلم الشرعي ، الرغبة وحدها لا تكفي لتحقيق هذه الاهداف النبيلة؟؟ ، الرغبة في إتقان لغة جديدة قد تكون بداية الطريق ، لكن دون أن نحيط أنفسنا بقيود وضوابط صارمة جدا ، فإن تلك الرغبة قد تتلاشى بسرعة البرق ، يحتاج المرء إلى الانضباط و إلى خلق نظام قاس يفرض عليه دراسة دورية و منتظمة ، يحتاج المرء إلى تحديات يواجهها وعواقب يواجهها إذا أخفق في الالتزام بالقيود ، قد تكون هذه العواقب عقوبات ذاتية ، أو حتى نوع من الالتزام أمام الآخرين ، ولكنها ضرورية لتسريع عملية التعلم وتحقيق الإتقان ، فالنجاح في حقيقته ، ليس ثمرة الحرية المطلقة ، بل هو نتاج قيود تنظم جهودنا وتوجه طاقاتنا نحو الهدف المنشود ، القيود هي التي تحول الفوضى إلى نظام ، والنية إلى فعل ، والرغبة إلى إنجاز .
إذن ، في نهاية المطاف لا يمكننا إنكار حقيقة أن القيود هي التي تصنع النجاح ، إنها تشبه السد الذي يحجز المياه ليفيض بالنهر عند الحاجة ، تنظم تدفق الطاقات وتوجهها نحو الهدف، قد تكون القيود في ظاهرها قاسيةجدا ، لكنها في جوهرها نعم نفيسة تضعنا على طريق النجاح وتمنعنا من الانحراف عنه .
فليكن هذا الدرس محفورا في أذهاننا : القيود التي نكرهها اليوم قد تكون هي نفسها التي سنشكرها غدا عندما نحقق ما كنا نظنه يوما مستحيلا ، إنها القيود التي تصقل المهارات ، وتهذب النفوس ، وتبني الأهداف ، وتحقق الأحلام .
الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار،،،، د. قطرالندى عزيز دعدوش