عظماء من الفشل المدرسي إلى العبقرية . د. قطر الندى عزيز دعدوش
كيف يمكن أن تكون العظمة وليدة الفشل؟
اليوم في عالمنا الحديث ، حيث يقاس النجاح غالبا بأرقام تسطر على ورق ناصع و بشهادات تتصدرها أختام مؤسسات عريقة ، يظل السؤال قائما : كيف يمكن أن تكون العظمة وليدة الفشل؟؟؟ ، وكيف لأولئك الذين تعثروا في مسيرتهم الدراسية أن يصبحوا فيما بعد منارات للعلوم والابتكارات ؟؟ إنها حكاية تروى عن أذهان رفضت الانصياع لقواعد التعليم التقليدي الاكاديمي لتغوص في عوالم من الإبداع العجيب ، وتصنع مجدا أبديا بفضل شغفها وجرأتها .
حينما نتأمل في سيرة ألبرت أينشتاين ، نرى كيف أن هذا العبقري العظيم الذي غير فهمنا للكون بنظريته النسبية ، لم يكن يوما من بين الطلاب المتفوقين !! ، بل كان أينشتاين يعتبر في طفولته بطيئا في الفهم والنطق ، وكان معلموه يرون فيه طفلا غير مبشر بالنجاح الأكاديمي إطلاقا ، لكن ما غاب عن هؤلاء المعلمين هو أن عبقرية أينشتاين كانت تتجاوز مجرد استيعاب المناهج الدراسية ، كانت عبقريته تكمن في قدرته على التفكير بطريقة لم يكن قادرا على تصورها إلا القليلون ، لقد كان يرى العالم بعيون تحمل دهشة الأطفال وفضول الفلاسفة في الوقت نفسه ، يبحث في الأسئلة التي لم يكن للمدارس التقليدية أن تجيب عنها .
وفي قصة أخرى ، لتوماس إديسون ، المخترع الذي أضاء ظلمات البشرية وزين المدن العملاقة بمصباحه الكهربائي ، نجد تجسيدا آخر لهذه المفارقة الغريبة ، إديسون الذي كان يعتبر طالبا ” بليد العقل” وغير قادر على التعلم في المدرسة ، حتى طرد منها بعد أن وصفه معلموه بالعجز الذهني ، لكن إديسون لم يكن عاجزا ، بل كان طفلا لا يناسبه ذلك القالب التقليدي الذي حاولت المدرسة أن تضعه فيه ، و تحت إشراف والدته التي آمنت بموهبته ، انطلق إديسون في رحلته الخاصة نحو المعرفة ، رحلة قادته ليصبح واحدا من أعظم المخترعين في التاريخ برصيد يزيد عن ألف براءة اختراع حسب المؤرخين العلميين .
إلى قصة أخرى لرجل عبقري يعيش معنا اليوم ، بيل غيتس ، الذي ترك جامعة هارفارد !! ، لم يكن مجرد طالب جامعي ، كان رجل أعمال ومبتكرا ينتظر فقط لحظة الانطلاق ، تركه للجامعة لم يكن فشلا ، بل كان قرارا استراتيجيا مدفوعا برؤية أبعد من مجرد نيل شهادة ، فقد كان غيتس يرى فرصا عظيمة في عالم الحوسبة لم يكن الأكاديميون ودكاترة الجامعات قد اكتشفوها بعد ، ترك الجامعة ليؤسس شركة مايكروسوفت ، تلك الشركة التي لم تغير فقط وجه التكنولوجيا ، بل أسست لحقبة جديدة من الابتكار والذكاء الاصطناعي .
ولا يمكننا أن ننسى ستيف جوبز ، الذي ترك مقاعد الدراسة الجامعية بعد فصل دراسي واحد !! ، لم يكن جوبز يهتم بالتعليم الأكاديمي التقليدي ، بقدر ما كان يهتم بالتصميم والفن والإبداع ، ففي وقت لاحق جمع بين التكنولوجيا والفن ليخلق منتجات لم تكتف بتلبية احتياجات الناس فحسب، بل أثارت فيهم الشغف والدهشة ، آبل تلك الشركة التي أسسها ، لم تكن مجرد علامة تجارية ، وانما كانت فلسفة جديدة في عالم التكنولوجيا .
التناقض الظاهري بين الفشل الدراسي والنجاح العظيم يعيدنا إلى مفهوم أعمق للعبقرية ، فالعقل العبقري ليس مجرد آلة لتلقي المعلومات والتفوق في الامتحانات ، بل هو عقل يتحدى الواقع ويبحث عن حلول جديدة ، عن مسارات غير مألوفة ، التعليم التقليدي الذي يركز على التلقين والحفظ كثيرا ما يغفل عن الجانب الإبداعي والتجريبي للطلاب الذين يرون العالم من زاوية مختلفة ، هؤلاء العباقرة لم يفشلوا في المدرسة لأنهم كانوا أقل ذكاء ، بل لأنهم كانوا يفكرون بطريقة لا يمكن حصرها في مناهج دراسية تقليدية ، الفشل في النظام التعليمي التقليدي لم يكن سوى علامة على أن هؤلاء الأشخاص لم ينتموا لتلك القوالب الجاهزة ، عقولهم كانت تشتعل بأفكار خارج حدود تلك القاعات ، أفكارا لا يمكن تقييدها في بطون كتب مدرسية أو أسئلة امتحانية .
من هنا يمكن القول ان العبقرية تتطلب شيئا أعمق من مجرد التفوق الأكاديمي ، تتطلب شجاعة في التفكير خارج الصندوق أو المألوف ، واستعدادا للمجازفة ورغبة لا تقاوم في استكشاف المجهول ، ولعل فشل هؤلاء العباقرة في مسيراتهم الدراسية لم يكن سوى بداية لمسيرة أخرى أعظم، مسيرة قادتهم ليكونوا ما هم عليه اليوم : عظماء غيروا وجه البشرية و العالم .
الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار،،، د. قطرالندى عزيز دعدوش