الإعلام الجديد من وجهة نظر قدماء الإعلاميين!
تحليل المادة الإعلامية في منظور علم الصوتيات
جزء من تخصصي في علوم الصوتيات واللسانيات متعلق بتحليل المادة الإعلامية المقدمة على الشاشات والإذاعات وجميع المنصات المتاحة بشكل عام، كما تتعلق دراستي بتحليل المحتوى الإعلامي من لغة منطوقة ومكتوبة، وذلك لدراسة الهيئة اللغوية للمجتمع ومدى تطور اللغة المنطوقة والمكتوبة، بالإضافة لعرض توصيات علمية بكيفية تطوير الأداء النطقي واللغوي للإعلامي والمحتوى المعروض.
ومرت الأيام والسنين وأنا أتابع عن كثب جميع القنوات الفضائية والإذاعات المصرية بالإضافة للمنصات الإعلامية المختلفة على السوشيال ميديا بكافة أنواعها.
ومؤخرا شاهدت بعيني وأذني تدهور شديد في أداء الإعلاميين وتدهور عام لما يعرض على الشاشات والإذاعات من محتوى غير هادف وليس له أي مضمون نافع -إلا من رحم ربي.
وفي أحد الأيام كنت أتحدث مع أحد الإعلاميين الكبار عن ما صار إليه المحتوى الإعلامي ومدى تدهور الأداء الإعلامي، وأثناء الحديث وضحت رؤيتي بخصوص حتمية تغيير مناهج الإعلام التي تدرس في الجامعات من نظريات إعلامية قديمة أصبح لا يبالي بها أحد من الإعلاميين الآن، وبالرغم من ذلك فإنهم إعلاميين صف أول في القنوات الفضائية والإذاعية الآن، إذن فلماذا ندرس للطلبة والطالبات النظريات الإعلامية القديمة التي لا يعتمد عليها مهنيا، لأنهم حتما لا يستخدمونها عند ممارسة مهنة الإعلام، بالإضافة إلى أن تلك النظريات حتما لا تجعلهم إعلاميين صف أول!
وبعد مرور عدة أيام -كما اعتدنا- أظهر لي فيس بوك ندوة بعنوان “الإعلام الجديد – تحديات مهنية واجتماعية”، وحرصت حرصا شديدا على حضور هذه الندوة وكنت أتصور أنها ستخرج بتوصيات تحقق رغبتي الدفينة في تغيير المناهج الإعلامية العتيقة واستبدالها بمناهج عصرية تناسب الزمن الحالي وتعكس لغته وثقافته ومدى انفتاحه، لكي يتحقق الهدف الأسمى للإعلام بحيث يؤثر تأثير إيجابي في المشاهدين والمستمعين، ويقوم بزيادة ثقافتهم وتوعيتهم، بالإضافة للهدف الأساسي في الترفيه بشكل عصري ومؤثر.
وكنت متحمسة جدا ومتفائلة جدا بهذه الندوة وعنوانها؛ وجاء اعتقادي بخروج توصيات تشمل إعادة النظر في المناهج الإعلامية المقدمة للطلبة والطالبات، لأن هذه الندوة كان بها قامات إعلامية كبيرة، على سبيل المثال لا الحصر؛ الإعلامية القديرة إيناس جوهر رئيسة الإذاعة المصرية الأسبق والإعلامي الدكتور محمد عبده مقدم الأخبار بالتليفزيون المصري، والدكتور سامي عبد العزيز عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، والدكتور سعيد المصري الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، بالإضافة لحضور العديد من القامات الإعلامية من مقدمين برامج على القنوات الفضائية وأيضا قامات أكاديمية كبيرة من عمداء ورؤساء أقسام بالجامعات المصرية، وأيضا رؤساء تحرير عديد من المواقع الإخبارية المصرية، وأعضاء ورؤساء من نقابة الصحفيين والإعلاميين، كل ذلك بالإضافة إلى دعوة العديد من صغار الإعلاميين الجدد والبلوجرز Bloggers والمؤثرين Influencersكما نطلق عليهم في يومنا هذا، والذين يقومون بتقديم محتوى هادف ومؤثر بشكل إجابي في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، كل هؤلاء في ضيافة د. أحمد زايد مدير مكتبة الإسكندرية وحضور كوكبة من العاملين بمكتبة الإسكندرية من أقسامها وإداراتها المختلفة.
ولكن عندما دخلت القاعة؛ انتابني شعور كبير بخيبة الأمل؛ حيث فوجئت بعدم تواجد أي أسم من البلوجرز أو المؤثرين الذين تمت دعوتهم على المنصة الرئيسية! وقولت في قرارة نفسي، كيف يكون الحديث عن الإعلام الجديد ولا يوجد أي من يمثله على المنصة؟! ولكن ذهبت للجلوس في المكان المخصص وقولت لابد أنها ليست ندوة ويمكن أن تكون جلسة نقاشية!
وبدأت الندوة وصرت استمع إلى القامات الإعلامية الكبيرة المتواجدة على المنصة لأتعلم منهم واستفيد من علمهم وخبراتهم، وفي ذات الوقت أحاول جاهدة أن أقنع نفسي بأنه سيتم فتح النقاش للحاضرين من البلوجرز والمؤثرين لمناقشة رؤيتهم وأحلامهم، واستمتع كحاضرة بحوار بين الأجيال الإعلامية المختلفة وعرض الرأي والرأي الأخر. ومرت ساعتين ولكني مازلت مصدومة ومندهشة على حد سواء من وجود قامات إعلامية كبيرة في السن والمقام يتحدثون عن إعلام من زمن فات وانقرض بمعاييره وثقافته وأخلاقياته، بل ويقوموا بتشويه صورة الإعلام الجديد -كما يطلق عليه- ويذكروا جميع سلبياته وتأثيراته المميتة على المجتمع منذ أحداث 2011 (ونحن الآن في 2024). كل ذلك دون النظر لأي من أسباب وجود هذا الإعلام الجديد أو مناقشة كيفية الاستفادة منه أو التوعية ضد مخاطره أو الطريقة المثلى للتعامل معه!
بالإضافة إلى أنهم أجمعوا على رفض عنوان الندوة، ويتناقشوا فيما بينهم وأمام الحضور ويجتمعوا على أن ما يقدمه البلوجرز والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها لا يرتقي لدرجة أن يطلق عليه “إعلام” من الأصل! وأن كلمة “إعلام جديد” تكون بمثابة اعتراف منهم بأنه “إعلام” لديه المعايير الإعلامية المتعارف عليها لديهم! بالإضافة لعدم مقدرتهم على تقديم أي حلول منطقية لاحتواء واستيعاب وتقنين وتوجيه المنصات الإعلامية الجديدة والقائمين عليها، بل يؤكدوا ويصروا على عدم تقبلهم لهذا النوع من الإعلام، والذي هو في حقيقة الأمر واقعا، بإرادتهم أم رغما عنهم!
وكأن هؤلاء القامات يعيشون في كوكب منفصل عن الذي نعيش فيه ولا يدركوا أننا الآن على أعتاب إعلام من نوع أخر يسمى “إعلام الذكاء الاصطناعي”، حيث لا مكان فيه للإعلامي من الأساس! كما أنه سيضرب بالمعايير الإعلامية التي يتشبثون بها عرض الحائط!
بالرغم من أن هذا كان متوقع منذ أكثر من 50 عام، وكثير من الدراسات كانت تؤكد على أن الذكاء الاصطناعي سيحدث طفرة في كثير من المجالات، كما أنه سيقضي على كثير من المجالات ويجعلها ذكرى من زمن فات، ومن هذه المجالات الدراسات القانونية والإعلام والصحافة والتليفزيون.
ومازال الحوار الكبير يدور في قرارة نفسي، وبخاصة عند فتح الأسئلة خلال أخر عشر دقائق، حيث لا يتسع صدر المنصة للاستماع لهؤلاء البلوجرز والمؤثرين الذين تمت الإطاحة بهم والاستهزاء بهم والتقليل من مجهوداتهم وأعمالهم المؤثرة والإيجابية على السوشيال ميديا.
ومازلت أتسائل في قرارة نفسي، لماذا تمت دعوة كل هؤلاء البلوجرز والمؤثرين ولم يكن الهدف الاستماع لهم أو مناقشتهم؟! وكيف لا ترى هذه المنصة الموقرة أي إيجابيات في الإعلام الجديد؟ أم أنهم يرفضون أن يروا أي إيجابيات بإرادتهم لكي يحافظوا على ما تبقى لهم من أسماء لا يذكرها غير جيل لم يعد موجود بالعصر الحالي؟ كيف نتحدث عن ضوابط إعلامية في عصر ليس به ضوابط من الأساس؟ كيف نمنع الجيل الجديد (جيل الـ 2000) من متابعة الإعلام الجديد الذي هو إعلام عصره؟ كيف لنا أن نحكم عليه ألا يعيش العصر الذي خلق فيه وله؟ كيف نطلق على الموبايل اسم “الشيطان المحمول” ونحن نعيش بالعصر الرقمي؟ كيف نشجع أبنائنا على تعلم العلوم التكنولوجية الحديثة ونحن نرفض زمن التطور والتكنولوجيا؟ لماذا نأخذ وقت طويل هكذا في دراسة الأمور وتقبلها وتعلم التكيف معها؟
لك عزيزي القارئ الحرية المطلقة في الإجابة على الأسئلة السابقة، ولكني سأختصرها عليك وألخصها لك في كلمة واحدة هي: “التوعية”.
بقلم/ د. إيمان يسري