في عالم الرأسمالية المتأرجح ، ليس من المستغرب أن يتحول الثري بين عشية وضحاها إلى فقير يتلمس موطئ قدم في عوالم الفقر الموحشة ، قد يبدو هذا التحول قاسيا وغير منطقي ، ولكن خلف هذه القسوة تكمن قوانين اقتصادية معقدة تعكس فلسفة النظام الرأسمالي في ذاته ، حيث النجاح والفشل ليسا أكثر من وجهي عملة واحدة ، كيف ذلك ؟ .
الرأسمالية التي تمجد مبدأ السوق الحر وتعتمد على العرض والطلب ، هي نظام يعزز المنافسة الشرسة ويفتح الباب واسعا أمام الثراء المفاجئ ، ولكنه في الوقت ذاته لا يغلقه في وجه الخسائر الفادحة ، ثراء الفرد في هذا النظام قد يكون نتيجة لمجموعة من العوامل المتشابكة ، حظ ، توقيت مثالي ، أو حتى استغلال صحيح لفجوات السوق ، ومع ذلك فإن تلك العوامل ذاتها قد تنقلب رأسا على عقب ، فتصبح سببا في إفلاس مفاجئ لا يمكن التنبؤ به .
لنأخذ على سبيل المثال ما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008 ، مستثمرون كبار مثل الملياردير “ريتشارد فولد” الذي كان يدير بنك “ليمان براذرز” ، وجدوا أنفسهم في قلب العاصفة ، كان “فولد” الذي جمع ثروة هائلة من المضاربة في سوق العقارات ، ويعانق أرباحا غير مسبوقة ، ولكن مع انفجار فقاعة العقارات وانهيار السوق بسبب مشاكل وأدوات الرأسمالية ذاتها ، تهاوت قيمة استثماراته في لحظة ، وأعلن إفلاس البنك ، تحول فولد من قمة الثراء إلى مواجهة الدعاوى القضائية والخسائر الشخصية الفادحة والضخمة ، وتجسد ذلك ببساطة في انهيار مؤسسة كانت تعتبر عملاقا ماليا .
الرأسمالية تنطوي على مفهوم المخاطرة المرتبطة بالربح ، وكلما زادت المكاسب زادت المخاطر ، و على سبيل المثال ايضا ، مارك زوكربيرغ مؤسس “فيسبوك” (الآن “ميتا”) ، كان يعاني من تقلبات في ثروته في عام 2018 ، انخفضت أسهم الشركة بشكل حاد نتيجة فضيحة “كامبريدج أناليتيكا” ، وخسر زوكربيرغ في يوم واحد ما يقارب 16 مليار دولار من ثروته !! ، على الرغم من أنه لم يصل إلى حافة الفقر ، إلا أن المثال يوضح كيف يمكن أن تكون التقلبات في الثروة سريعة ومدمرة في النظام الرأسمالي الذي يعتمد على مبدأ المخاطرة المرتبطة بالربح .
وبعيدا عن ذلك ، فإن بعض الأثرياء يدفعهم جشعهم أو طموحهم اللامحدود إلى استثمار مبالغ ضخمة في مشاريع محفوفة بالمخاطر ، أملا في تعظيم الثروة أكثر ، على سبيل المثال ، المستثمر “بيل هوانغ” الذي أدار شركة “أركيغوس كابيتال” ، استطاع بفضل استثماراته الجريئة تحويل مئات الملايين إلى مليارات ، ولكن طموحه دفعه إلى المراهنة على استثمارات خطرة باستخدام الأموال المقترضة ، وعندما انهارت هذه الاستثمارات ، خسر هوانغ جميع ثروته تقريبا في فترة وجيزة ، وعاد إلى نقطة الصفر .
ومن هنا ينبع السؤال : كيف يمكن لنظام يعزز النجاح أن يكون ذاته سببا للفشل الذريع؟؟ ، الحقيقة أن الرأسمالية لا تكترث بالاستدامة بقدر ما تهتم بالفرصة ، هي تدفع الفرد إلى استغلال الفرص المتاحة إلى أقصى حد ، ولكنها في ذات الوقت لا تضمن له الحماية من تقلبات السوق أو حتى أخطائه الشخصية في اتخاذ القرارات الاستثمارية ، الرأسمالية تعيد صياغة مفهوم النجاح والفشل ، في عالمها الثراء ليس هدفا ثابتا ، بل هو وضع مؤقت ، يمكن أن يزول بلمح البصر إذا لم تتوافر القدرة على التكيف مع تغيرات السوق أو إذا وقع المستثمر ضحية لأخطائه أو طموحاته غير المحسوبة .
إن التحول من الثراء إلى الفقر في ظل الرأسمالية ليس مجرد نتيجة لظروف خارجية بقدر ما هو جزء من ديناميكية النظام ذاته ، الذي يدفع الأفراد إلى حافة المخاطر بحثا عن الربح .
الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار.أ. قتيبة حسين علي