في فجرٍ يتسلل فيه الصمت من أعماق الليل، تغفو السفوح في حضن الطبيعة كأنها همسات سرمدية من عالم يتجاوز الإدراك، مغمورة بضباب يتسرب بخفة كحلمٍ مستحيل، يحجب كل ما يعترض طريقه ببطانته البيضاء، ويترك خلفه عالماً من الغموض المشوب بالتساؤلات. إنه زمن تذوب فيه الحدود بين الواقع والخيال، حيث الأصوات تصعد من عمق الصمت كأرواح هامسة بأسرار لا يفهمها إلا من ينصت إليها بروحٍ متهيئة للتسامي نحو العدم.
تتسلل الشمس ببطء على حافة السماء، لتكشف عن السفوح التي تبدو كأنها تنبض بالحياة تحت عباءة الضباب الثقيل. الأودية الملتوية تأخذ هيئة الأفاعي التي تتلوى في صمتٍ مطلق، تتباطأ في انكشاف أسرارها وكأنها تخشى التعري أمام من لا يملك الصبر الكافي لفهم تعقيداتها. إنه عالمٌ يبدو متجمداً في حركة بطيئة، حيث يتردد الزمن في المضي قُدماً، كأنه يخشى مواجهة ما يكمن في الساعات القادمة.
أصوات العصافير، تلك الأرواح الصغيرة المعلقة بين الفروع والظلال، تبدأ في نسج سيمفونية الطبيعة. لكن تغريداتها ليست مجرد ألحان، بل هي لغة غابرة، مفهومة فقط للجبال التي تردد صداها الوديان. تتشابك هذه الألحان مع جدران الصمت المحيطة، وكأنها تحاول استحضار أزمنة مضت، وحيواتٍ انطفأت في هدوء كئيب. حتى أصوات الحيوانات التي تتداخل في هذا المشهد تبدو وكأنها غارقة في غموض كثيف، محاولاتٍ بائسة لسرد قصص لا يمكن إدراكها إلا بعقلٍ نصف واعٍ، بنصف قلبٍ ينبض بالحيرة.
ومع اقتراب الليل، يكتظ الضباب ليصبح ستاراً نهائياً يفصل بين عالمين. السفوح تتحول إلى ظلالٍ باهتة، تتداخل مع الضباب حتى يبدو وكأنها لم توجد يوماً، بل كانت مجرد وهمٍ من أحلام الطبيعة. الأصوات تخبو ببطء، تتحول إلى همساتٍ بعيدة، وتنسحب نحو عوالمها الخاصة، تاركة خلفها فراغاً عظيماً، كأن الكون بأسره قد أطلق زفيراً عميقاً وغاص في سكونٍ مطلق.
في هذا الهدوء الغامض، حيث لا يبقى سوى الليل وسكينته، تدرك أن الطبيعة ليست مجرد لوحة حية، بل هي كيان يحمل في أعماقه أسراراً لا يمكن سبر أغوارها. السفوح، والأودية، والضباب ليست مجرد مظاهر عابرة، بل هي تجليات لروح خفية، لا تظهر حقيقتها إلا لمن يمتلك بصيرة تخترق الحجب. وفي النهاية، يتلاشى كل شيء في قلب الضباب، يبتلع التفاصيل والأصوات، تاركاً وراءه شعوراً خافتاً بالسلام الممزوج بالغموض، كصفحة بيضاء تنتظر أن تُكتب مجدداً في حلمٍ آخر، ربما لا يأتي أبداً………
الهيئة العامة للثقافة والفنون والآثار،،،، أ. عامر مروان