في بحور الفكر والروح، تجد نفسك كائنًا عابرًا لزوابع الزمن وجداول الحياة، في رحلة تتباين فيها الأحوال وتتشابك فيها الأقدار. وعلى ضفاف تلك الرحلة، تجد نفسك محاطًا بحقيقة مهمة: أنك مجرد عبد ومُمتحن، مستضعف أمام قدر لا تستطيع التحكم فيه. ولكن كيف يكون ذلك؟
لعل الاجابة على هذا التساؤل تكشف أنه يكمن في عمق كل واحد منا عالم آخر، عالم يعج بالأفكار والعواطف والتجارب. عالم بكشف اننا مملوكون لقدراتنا ومشاعرنا، ونحن مُمتحنون بشدة في هذا العالم الداخلي الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من وجودنا. ومن زاوية أخرى إذا ما نظرنا إلى حياتنا، نرى كيف تتملكنا أحلامنا وتطلعاتنا، كما نكتشف أننا نواجه معضلة كوننا ممتحنون بصورة مالك يتصرف في هذا العالم الداخلي بحب ورعاية أو بتقصير وبلا حسبان. وبالرغم من ذلك نكتشف في كل تجربة نمر بها، أننا محاصرون بين ما نريد وما يجب، بين ما نحلم به وما يفرض علينا. وفي هذا التوازن الحساس بين الرغبة والضرورة، يبرز قول حكيم لابن القيم يذكرنا بأننا في النهاية رهن تقدير الخالق، مُمتحنون ومملوكون في هذا الكون الواسع. حيث يقول” واعلم أنك مملوكٌ مُمتحنٌ في صورةِ مالكٍ مُتصرِّف.”
تُرى كيف يرسم ابن القيم تلك الصورة الروحية بأسلوبه السلس، ليجعلك تشعر بقيود الوجود وثقل المسؤولية التي تقع على عاتق الإنسان، وفي الوقت ذاته ينير لك درب التسليم والاستسلام لقدر الخالق الذي لا يعجزه شيء.
إنها رؤية صوفية تعيدنا إلى جوهر الإيمان والتواضع، وتذكرنا بأننا لسنا سوى عبيد صغار أمام عظمة الخالق الذي يبتلينا ويختبرنا في هذه الحياة كما يشاء، وأنه ليس هناك سوى التسليم لحكمته العليا. وفي عبق تلك الكلمات الصوفية، تتجلى حكمة الاستسلام والرضا، وترتسم معالم الثقة المطلقة بالقضاء والقدر. إنها دعوة للتأمل والتفكير في معنى الوجود وغايته، وفهم أن الحياة امتحان واختبار يمر به الإنسان لينضج ويتطور روحيًا وأخلاقيًا.
لذا، عندما نعيش حياتنا كمالكين متصرفين، لنتذكر أننا في الحقيقة مملوكين ممتحنين، وأن القوة الحقيقية تكمن في قدرتنا على تقبل ما نحن عليه ومواجهة هذه التحديات بكل صبر وإيمان.
فلنقبل بقوة بأننا مجرد مملوكين لله الحكيم، ومستحقون لكل امتحان يأتي في طريقنا، ولنتبنى تلك الحكمة العميقة التي تختزنها كلمات ابن القيم ونسير بثقة نحو مستقبل أفضل، مدعمين بإيماننا واستسلامنا لقضاء الله.
ولنكن كالورقة التي تتراقص في الرياح، تثق بقدرة الخالق على توجيهها وتوجيه مصيرها، وتعيش بسلام في حضن هذا الكون الذي خُلقت فيه، مدركة أن الحرية الحقيقية تكمن في الاستسلام لإرادة الله والثقة الكاملة بقضاءه وقدره.
همام حسين علي